صاحبة الصوت الحالم .. الصوت النافذ الى القلب المتحدث باهاته .. نجاة الحب .. نجاة الصدق .. نجاة الصغيرة ... .. بدايتها .. عندما احترفت نجاة الغناء لم يكن الطريق مفروشا أمامها بالورد وظلت سنوات طويلة تبحث عمن يساعدها بالكلمات والألحان التي تمكنها من منافسة كبار مطربات ومطربي عصرها الذين اخذوا طريقهم نحو الشهرة، فكانت هناك نجاة علي وأم كلثوم وليلى مراد وشادية وصباح وفايزة احمد، ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش.. ساحة مليئة بالحركة والغناء وثرية بالنجوم، لذا كان الطريق صعبا في وقت لم يتوفر لهم المال لشراء أغنية أو لحن أو الوصول إلى المستوى الذي يجعل شاعرا وملحنا لا يتردد في التعاون معها. وفي هذا الجو التنافسي كان من الصعب على نجاة أن تغني أي كلمة أو لحن، ولاسيما أن الجمهور نظر إليها من البداية كخليفة لأم كلثوم التي كانت تمتطي أعلى قمة في الغناء العربي، وكان هذا الإحساس الذي يحركها هو حصن الأمان الذي يحميها من انتقاء عشوائي أو وقوع في غياهب الرغبة في الانتشار. ولدت نجاة الصغير في قلب القاهرة، في منزل متواضع في حي عابدين، وكان والدها محمد حسني البابا خطاطا بارعا، نال شهرة واسعة، غير انه كان رقيق الحال وكانت أمها مغلوبة على أمرها، والجو العائلي مشحون بالمشاكل. تم طلاق والدتها وهي في سن الرابعة من عمرها، عاشت مع والدها منزوية معظم الوقت خوفا من تسلطه، وكانت سلوتها الوحيدة الغناء، فكانت تغرد مثل عصفور محبوس في قفص، تقلد عبد الوهاب وأم كلثوم في صوت طفولي عذب، وعندما وصل صوتها إلى والدها أسرع بها إلى المسارح ومتعهدي حفلات الغناء لاستغلالها، فلم تذهب للمدرسة مثل أقرانها، ومن حفلة إلى أخرى انطلقت وراء والدها لتقلد أم كلثوم التي حفظت أغانيها عن ظهر قلب، وقلدتها في حركاتها وخلجاتها وانتزعت تصفيق وإعجاب الجمهور. وفي العام 1944 نجح والدها في أن يدرجها في حفل وزارة المعارف الذي كان من المفترض أن تحييه أم كلثوم واعتذرت عنه في آخر لحظة لتكون نجاة هي البديل المنقذ لمنظمي الحفل، ويتم اعتماد موهبتها وتزداد الحفلات وتقدم وصلات غنائية في مسرح بديعة مصابني وتمثل دورا صغيرا في فيلم “هدية” إخراج محمود ذو الفقار. ظلت الفتاة الصغيرة النحيلة مغلوبة على أمرها راضية صابرة على والدها الذي يدفعها للغناء في الملاهي في ظل ظروف قاسية، ما دفع بمحمد التابعي وفكري أباظة ومحمد عبد الوهاب بمطالبة الهيئات الفنية لإنقاذ الطفلة وحماية صوتها من الاستغلال، واعتبارها موهبة تستحق الرعاية والاهتمام، وعندما ازداد استغلال والدها لها الذي أرهقها في الحفلات كانت تلجأ إلى عبد الوهاب الذي تعرفت إليه في الإسكندرية وكان يهدئ من روعها ويحثها على الصبر. .. البداية وتسارع الاحداث.. وفي العام 1955 تزوجت نجاة من كمال منسي صديق شقيقها، وبعد أن خلعت ثوب الزفاف خلعت أيضا ثوب أم كلثوم الذي ارتدته لتنطلق بثوب فني جديد يحمل بصمتها. وساعدها زوجها فكان يحضر لها من المؤلفين والملحنين أغاني تليق بها وبصوتها العذب، لتنطلق كالسهم المضيء وتنجح في سد الفراغ الذي تركته ليلى مراد باعتكافها، وشادية باتجاهها للتمثيل، واختفاء أسمهان وفتحية احمد ونجاة علي التي اضطرت نجاة إلى تسمية نفسها ب “نجاة الصغيرة” بسببها. بدأ الجمهور يتذوق أغانيها وصفق لموهبتها الأصيلة، وذاقت نجاة طعم النجاح لأول مرة في حياتها وشعرت بأن الناس يحبونها لصوتها وموهبتها وليس لتقليدها أم كلثوم. في غمار فرحتها بالزواج وسعادتها بثمرته منه “وليد”، فهو الزوج والحبيب ومساعدها الأول الذي يقتنص لها الألحان والكلمات لتقديمها لها وأصبح مستشارها الأول الذي تأخذ برأيه في معظم الأوقات، وبعد أربع سنوات تحول العش الهادئ إلى جحيم لا يطاق وعواصف تقتلع الحب الكبير، فقد تحول الزوج إلى إنسان آخر كرهت معه تدخلاته السافرة في حياتها وفنها وسعت إلى تجاوز الأزمة بمحاولة الطلاق الودي. ولأنها موعودة بالعذاب والمتاعب تخرج من الأزمة بتناسيها مؤقتا لتلحق بقطار المنافسة الذي يسير بسرعة كبيرة. أرادت أن تلحق بعبد الحليم حافظ، وفايزة احمد التي استطاعت في فترة قصيرة تخطيها، وأصبحت المطربة المفضلة عند الموسيقار محمد عبد الوهاب بعد أن استغلت خلافه مع نجاة بسبب رفضها العمل في فيلم من إنتاجه، وتأخذ منه خمسة ألحان رائعة ويصعد نجمها، فزعت نجاة وقدمت أغنية “سامحني تبت خلاص” وبعد نجاحها انهالت عليها تعاقدات العديد من الشركات، غير أنها في عز تألقها تعود لتسكن إلى الاكتئاب والاختفاء من جديد، فقد ذهبت أغنية “أروح لمين” لأم كلثوم بعد أن حفظتها هي مع السنباطي، إضافة إلى أن المحكمة رفضت طلب طلاقها، غير أنها حصلت عليه بعد 6 أشهر. ظلت نجاة تتطلع إلى نجاح أكيد بعد أن صنعتها أغنية “أسهر وانشغل أنا” التي قدمتها عام 57 وجعلت الناس ينشغلون بها ويسهرون على أغانيها، وقد شجعت هذه الأغنية محمد عبد الوهاب الذي طلب من مأمون الشناوي أن يكتب لها أغنية قام هو بتلحينها “كل ده كان ليه” وبعد أن سجلتها صدمت بأن عبد الوهاب قدمها بصوته و”شربت هي المقلب الساخن” ولكنها قدمت أغنية “أمّا غريبة” التي رفعت أسهمها وبدأت في جولة غنائية عربية رائعة وغنت من ألحان عبد الوهاب “العوازل ياما قالوا” وبعدها أغنية “خايفة” من ألحان شقيقها عز الدين حسني. .. وتتوالى النجاحات .. وتتوالى نجاحات نجاة “تليفونك ليه مشغول” كلمات عبد الوهاب محمد وألحان بليغ حمدي “ساكن قصادي وبحبه” كلمات حسين السيد وألحان محمد عبد الوهاب، “قدرت تنام” لمأمون الشناوي ومحمد الموجي، ثم أغنية “أيظن” التي أهداها لها الشاعر نزار قباني ولحنها محمد عبد الوهاب ولاقت نجاحا كبيرا، وكعادة عبد الوهاب معه سجل الأغنية بصوته وحدثت مشكلة مع نجاة لم يحسمها إلا نزار قباني نفسه الذي قال: إن الأغنية مهداة لنجاة وليس من حق عبد الوهاب أن يسند كلماتها لنفسه أو لأي مطربة أخرى غيرها، فقد كان يحلو لعبد الوهاب أن يعيد بصوته تسجيل بعض الأغاني التي يلحنها للآخرين ماعدا أغاني أم كلثوم التي اشترطت عليه عدم تسجيل الأغاني التي يلحنها لها بصوته. ورغم أن نجاة غنت كثيرا للحب وعذابه وللرومانسية، إلا أنها لم تذق طعم الحب والاستقرار في حياتها، وربما عاشته فقط على الشاشة من خلال السينما. فقد كانت نجاة مولعة بالسينما منذ صغرها وإن كان ولعها بالغناء أشد فكانت تحب الأفلام وتحرص على مشاهدتها وكانت تذهب إليها نادرا بسبب صرامة والدها وعندما احترفت الغناء كان حلم السينما يراودها، ولم يكن حلم صاحبة الصوت العذب مجرد الظهور على الشاشة أمام ممثل مشهور، بل كانت تنظر إليها على أنها نافذة أخرى لنقل إحساسها ومشاعرها وصوتها إلى دائرة أوسع وأرض جديدة. .. نجاة والسينما .. وفي أولى خطواتها نحو السينما بدأت بالأدوار الاجتماعية الرومانسية التي تناسب طبيعتها وصوتها الرقيق، ولم يكن ذلك بحكم اختيارها بل برؤية المخرجين الذين يعرفون جيدا أنها مطربة في المقام الأول. وكان أول أدوارها دور صغير لطفلة في فيلم “هدية”، وعندما اشتد عودها وقفت أمام المطربة “نجاة علي” لتمثيل دور ثانوي في فيلم “الكل يغني” وفي هذا الفيلم أطلق عليها الجمهور اسم “نجاة الصغيرة” للتفرقة بينها وبين نجاة الكبيرة بطلة الفيلم التي كانت تتمتع بشهرة واسعة. وواصلت مشوارها مع الأفلام فتمكنت من القيام بدور البطولة في فيلم “غريبة” الذي يعتبر البداية الحقيقية لها في السينما ففيه أثبتت قدرة على التمثيل والغناء معا أمام نجوم كبار مثل عماد حمدي واحمد رمزي وعقيلة راتب، ليتفق معها المخرج حلمي حليم على فيلم “العيد الكبير” أمام احمد رمزي وعبد السلام النابلسي لتغني فيه 4 أغنيات من تأليف مرسي جميل عزيز وألحان كمال الطويل ومحمد الموجي. وقامت نجاة بعد ذلك ببطولة فيلم “أسير الظلام” وغنت فيه من ألحان عبد الوهاب. واستطاع المخرج عز الدين ذو الفقار تفجير ما بداخلها من قدرات تمثيلية في فيلمه الرائع “الشموع السوداء” مع صالح سليم وبعده انطلقت شائعات وقوعه في غرامها. ثم قدمت 4 أغان من ألحان عبد الوهاب ومحمد الموجي وبليغ حمدي في فيلم “ابنتي العزيزة” أمام رشدي أباظة وعمر خورشيد من إخراج حلمي رفلة. وعندما اكتملت أنوثتها التقطها المخرج حسام الدين مصطفى ليوظف قدراتها الغنائية في فيلم “شاطئ المرح” وينجح الفيلم نجاحا كبيراً ويتزوجها حسام الدين مصطفى، غير أنه زواج لم يدم وسرعان ما انتهى بعد فترة. ويزداد إصرارها على مواصلة المشوار السينمائي لتقدم فيلم “سبعة أيام في الجنة” ويبقى فيلمها الأخير “جفت الدموع” مع محمود يس الأكثر تأثيرا في حياتها السينمائية لتعتزل السينما قبل أن تعتزل الغناء برصيد 7 أفلام. .. الانسحاب في سكون .. وبعد مشوار حافل بمئات الأغاني الجميلة التي تعاملت فيها مع كبار الملحنين والمؤلفين امتلكت كمّاً من الشجاعة الفنية وإعادة تقديم نفسها للأجيال الجديدة قبل أن تعلن انسحابها بشكل نهائي من الحياة الفنية تاركة خلفها إرثاً لا ينضب |
Commenti
Posta un commento