ابن الأمراء الذي عانى الفقر ونال جنسية أربع دول عربية
فريد الأطرش.. موسيقار الأزمان في ذكراه الأربعين شريف صالح مقالات أخرى للكاتب
ما حظي به فريد الأطرش أقل من حجم موهبته وانجازه، ولعل الشهرة التي نالها لم تفلح في اذابة الحزن الكامن في نبرات صوته، وفي عينيه.
من أين يأتي كل هذا الحزن الذي يكسو ملامحه، ويغمر ألحانه؟ هل هو شعوره الذاتي بأنه عزيز قوم ذل ابن الأمراء الذي اضطرته ظروف الحرب واضطرابات السياسة الى الهجرة الى مصر والبحث عن عمل لاعالة أسرته؟ هل هو احساس بالظلم كونه سوريا ينافس عمالقة مصريين في عقر دارهم.. ما فتح بابا للمماحكات والمشاحنات حول علاقته بالثلاثي عبد الوهاب وأم كلثوم وعبد الحليم؟
أم هي تعاسة الوجودية للفنان التي جسدها في كثير من أفلامه، حينما ينال المجد والشهرة ويخسر الحب، ومع ذلك لا يملك الا ان يكتم الألم ويبتسم للكاميرا وتصفيق الجمهور عندما ترفع الستار؟
وربما تراكمت العوامل الثلاثة، بمرور السنين، ليصل وحيدا الى شيخوخة قلقة، هو من اشتهر في أفلامه باسم وحيد.. بلا أسرة ولا أولاد.. يعاني صعوبات مالية عجلت النهاية في السادس والعشرين من ديسمبر عام 1974.
في هذه الأيام تمر أربعون سنة على وفاة فريد الأطرش ابن جبل الدروز، وسليل آل الأطرش أمراء جبل العرب.
ورغم تباين التواريخ بشأن مولده، فالراجح أنه ولد في 19 أكتوبر عام 1910 وتوفي عن أربعة وستين عاما. وربما من أسباب هذا الارتباك، ما يقال بأن فريد كان يحمل جواز سفر بأنه من مواليد عام 1915 مختصرا من عمره خمس سنوات، مثلما اختصر عبد الوهاب من عمره حوالي عشر سنوات!
بدايات صعبة
والده فهد فرحان اسماعيل الأطرش، تزوج ثلاث مرات، وأنجب من زوجته الثانية علياء المنذر خمسة أولاد هم: أنور وفريد وفؤاد ووداد وآمال التي غدت فيما بعد المطربة الشهيرة أسمهان. وتوفي والده عام 1925 ودفن في السويداء في سورية.
أما والدته الأميرة علياء حسين المنذر فهي تمتعت بصوت جميل قادر على تأدية العتابا والميجانا، وتأثرت بمطرب العتابا اللبناني يوسف تاج، وأورثت جمال الصوت الى ولديها فريد وأسمهان. وتوفيت سنة 1968 ودفنت في جبل لبنان.
عانى فريد اليتم مبكرا، رغم وجود أبيه على قيد الحياة، بسبب الاضطرابات السياسية واضطراره الى الفرار من الفرنسيين الذين يسعون للانتقام من وطنية والده، ومن عائلة الأطرش كلها لقتالهم ضد الاحتلال الفرنسي.
وصل فريد مع والدته الى القاهرة، والتحق بمدرسة الخرنفش واضطر تغيير لقبه الى كوسا وهذا ما كان يضايقه كثيرا، وعندما اكتشف لقبه الحقيقي طرد من المدرسة فالتحق بمدرسة البطريركية للروم الكاثوليك.
ويقال ان الأم استطاعت بذكائها ان تدخل مصر من دون أي أوراق رسمية بحجة معرفة رئيس الوزراء سعد زغلول الذي رحب بالأسرة وصرف لها معاشا شهريا لبضعة أشهر قبل ان تسقط وزارته.
آنذاك نفد المال الذي كان بحوزة والدته وانقطعت أخبار الوالد، وهذا ما دفعها للغناء في روض الفرج لأن العمل في الأديرة لم يعد يكفي. وافق فريد وفؤاد على هذا الأمر بشرط مرافقتها حيثما تذهب.
حرصت الأم على بقاء فريد في المدرسة الى ان ساعده مصطفى رضا على دخول معهد الموسيقى العربية، والى جانب دراسته في المعهد عمل في بعض المهن المؤقتة مثل بيع القماش وتوزيع الاعلانات.
وذات يوم التقى فريد غصن والمطرب ابراهيم حمودة الذي طلب منه الانضمام الى فرقته للعزف على العود، وتأثر الأطرش كثيرا بموهبة غصن في العزف على العود.. وربما من خلاله أيضا وصل الى فرقة بديعة مصابني، حيث كان غصن مديرا للفرقة، ومن خلالها انطلق فريد الأطرش في سماء المجد بعدما أقنع مصابني بالغناء منفردا. فحاول ان يقدم نفسه كمغن وعازف، لكنه تعثر، وتضاعفت مع المشاكل مع فصله من معهد الموسيقى لأنه لم يحضر أحد الاختبارات بسبب مرضه!
وان جاز القول يعتبر مدحت عاصم هو الأب الروحي لأنه أعاد اكتشاف موهبة فريد ووضعها على الطريق الصحيح، حين دعاه للعمل كعازف في الاذاعة المصرية مرة في الأسبوع، كما قدم له بعض الأغاني من تلحينه أو تأليفه منها شوفت في هواكي وكرهت حبك.
وغنى فريد أمام لجنة الاذاعة الليالي والموال فنال الاجازة، وسجل أولى أغنياته التي مازالت من أشهر أعماله وهي يا ريتني طير من كلمات وألحان يحيى اللبابيدى، التي أتاحت له الغناء في الاذاعة مرتين في الاسبوع مقابل أجر زهيد.
ثم أنفق كل ما يملك واستعان بأفضل العازفين آنذاك منهم أحمد الحفناوي لتسجيل أغنيته الثانية بحب من غير أمل لكنه خرج من التجربة خاسرا. ومن أوائل أغانيه أفوت عليك بعد نص الليل التي أثارت ضجة وقتها واعتبرت خادشة للحياء وتزدري العادات والتقاليد، ومع ذلك غناها أمام الملك فاروق نفسه عام 1939.
إلى المجد
في عام 1941 فتح فريد لنفسه بابا آخر الى المجد عندما اقتحم مجال السينما بفيلم انتصار الشباب واستمرت مسيرته لأكثر من ثلاثين عاما، قدم خلالها 31 فيلما، من أشهرها: بلبل أفندي، شهر العسل، قصة حبي، عهد الهوى عن رواية غادة الكاميليا، رسالة من امرأة مجهولة، حكاية العمر كله، وآخرها نغم في حياتي الذي عرض عام 1975 بعد وفاته.
وتعاون فريد في أفلامه مع أعظم مخرجي عصره، حتى ممن ليس لهم علاقة بالفيلم الغنائي مثل صلاح أبو سيف ويوسف شاهين وكمال الشيخ، لكنه شكل دويتو مع أحمد بدرخان وهنري بركات اللذين أخرجا له وحدهما أكثر من عشرين فيلما.
كان فريد بطل كل أفلامه، وتعاون من خلالها مع معظم نجمات ومطربات ذلك الزمن مثل: فاتن حمامة، شادية، مريم فخر الدين، زبيدة ثروت، ولبنى عبد العزيز. لكن التجارب التي شكل فيها ثنائيا ناجحا وفارقا كانت مع الفنانة سامية جمال في ست أفلام تقريبا حيث جمعتهما قصة حب كانت حديث الساعة، ويقال ان بعض أغانيه كانت من أجلها هي مثل عمري ما حاقدر أنساكي، رجعت لك يا حبيبي بعد الفراق والعذاب، ومع ذلك تزوجت سامية أكثر من مرة، وعاشت زيجة مستقرة نسبيا مع رشدي أباظة، ولم تتزوج منه على الاطلاق، وان أعلنت بشكل حاسم أنه كان حب حياتها. وكثرت الروايات حول سبب عدم الزواج، فمن قائل ان الملك فاروق كان معترضا، ومن قائل ان فريد نفسه كان يرى ان الزواج سيقضي على عاطفة الحب، ويضيع مصدر وحيه والهامه لألحانه وأغانيه الشهيرة.
أيضا شكل فريد ثنائيا مع شقيقته أسمهان التي شاركته بطولة انتصار الشباب وغرام وانتقام وقدم لها أروع أغانيها أهوى ويا بدع الورد وليالي الأنس في فيينا.. كما كان له حضوره المميز تمثيلا وتلحينا مع صباح منها فيلم لحن حبي وأوبريت فارس أحلامي.
ومعظم أفلام فريد مشغولة بثيمة الحب، والحبكة الرومانسية، والتي تتقاطع مع سيرته الشخصية، حتى ان اسمه في بعضها كان فريد مثل اسمه الحقيقي، وفي بعضها الآخر وحيد، يظهر فيها كمطرب شاب يواجه صعوبات ويكافح لبلوغ المجد، أو فنان شهير يساعد مطربة شابة، أو فنان يعاني في الواقع ويخفق في تتويج قصة حبه بالزواج، رغم نجاحه الظاهري أمام الناس، أو يروي قصة فنان معروف مضرب عن الزواج، وبعض القصص كانت مستوحاة من نصوص عالمية شهيرة.
وكأن فريد في كل أفلامه يعيد تجسيد سيرته الذاتية على الشاشة، مع الفقر والفشل، والنجاح والحب، والنساء، بما في ذلك عيوبه الشخصية التي ضاعفت خسائره وأحزانه منها ولعه بلعب الورق والخيل، اضافة الى تأثره الشديد بالمصير المأساوي لشقيقته وتوأم روحه أسمهان حيث لقيت مصرعها في حادث في ريعان شبابها، ما تسبب له في ذبحة صدرية وحزن لازمه حتى النهاية، وان حاول الهروب منه بالانغماس في العمل.
لحن الخلود
على مستوى الغناء والتلحين، فهو لحن معظم أعماله باستثناءات قليلة، ووصل الى قمة المجد وسط منافسة شرسة مع عمالقة الطرب آنذاك، وقدم أكثر من اربعمائة أغنية أشهرها: ابكي يا عيني، اتقل اتقل، أحبابنا يا عين، اسمع لما أقولك، أنا وأنت لوحدينا، اشتقتلك، أول همسة، حكاية غرامي، الربيع، يا زهرة في خيالي، يا مالكة القلب، عش أنت، الربيع، لحن الخلود، جميل جمال، مش كفاية، أضنيتني بالهجر، علشان مليش غيرك، والحياة حلوة.
وكان فريد حريصا على عكس عبد الوهاب في تنويع الشعراء الذين يتعاون معهم الى أقص حد، حتى لو لم يكونوا من شعراء الصف الأول، ومن أشهر من غنى كلماتهم: الأخطل الصغير، فتحي قورة، يوسف بدروس، بيرم التونسي، أبو السعود الابياري، مأمون الشناوي، عبد العزيز سلام، أحمد رامي، صالح جودت، مدحت عاصم، بديع خيري، ومرسي جميل عزيز. بل انه تعاون مع ماسح أحذية في صالة بديعة مصابني، كان في حقيقة الأمر شاعرا موهوبا هو محمود فهمي ابراهيم الذي ألف كل أغاني فيلمه الشهير أنت حبيبي مثل: زينة ويا مجبل يوم وليلة تطوي السكة الطويلة.
ومن أهم ما يحسب لفريد المطرب والممثل أنه رائد الأوبريت الغنائي والاستعراضي في السينما العربية، مستفيدا من موهبته الموسيقية ومن أشهر راقصات عصره خصوصا سامية جمال، واستمر ولعه باللوحات الاستعراضية حتى في آخر أفلامه رغم تقدمه في العمر، بل يمكن القول ان الأوبريت الاستعراضي السينمائي انتهى بوفاته. كما ان بصمته تركت أثرا على كل مطربي تلك الفترة مثل عبد الحليم حافظ وكارم محمود وعبد العزيز محمود ومحمد فوزي.
ولا يقل حضوره كملحن لزملائه، عن حضوره كمطرب، فهو تعاون بموسيقاه مع معظم مطربي عصره، وقدم أعمالا لافتة، تكاد ان تكون من أفضل ما قدمه هؤلاء المطربون ومنهم: أسمهان، صباح، فايزة أحمد، صباح، نور الهدى، شادية، فتحية أحمد، سميرة توفيق، وردة، نازك، طروب، محرم فؤاد، وفهد بلان.
منافسة عبد الوهاب
لا يمكن لمن يؤرخ لسيرة فريد ان يتجاهل ثلاث مسائل، الأولى اصرار البعض على وضعه في الدرجة الثانية بعد أمراء العود الكبار مثل القصبجي ورياض السنباطي بوصفهما أساتذته، وبعد عبد الوهاب كمطرب وملحن. طبعا ذلك لم يكن واقعيا وربما كان مرتبطا بكونه سوريا. وهو أمر تأباه كبرياء فريد فكونهم سبقوه لا يقلل من عبقريته وتفرده.
وبلغ من شعوره بالندية رأسا برأس مع عبد الوهاب، ان اقترح في الخمسينيات ان يغني من ألحان عبد الوهاب، على ان يغني هو بدوره من ألحانه، لكن عبد الوهاب لم يتحمس. ومن الطرائف التي تروى عن موسيقار الأجيال قوله:في حبث وحسد لو أخلص فريد للتلحين مثل اخلاصه للقمار لأصبح ملحنا ذا شأن! بالطبع الى جانب سرعة ولعه بالحسناوت وبطلات أفلامه!
وقد يكون من أسباب الصراع بين الفنانين الكبيرين، أمور تتعلق بالمنافسة التجارية، وصراعات شركات السينما ومنتجي الأسطوانات آنذاك، وهو أمر مفهوم. وبالطبع هناك من تحيز له ومن تحيز ضده.
صراع مع العندليب
المسألة الثانية عندما انتقل الصراع ما بين فريد وعبد الوهاب، الى فريد وعبد الحليم الذي لا ينتمي الى جيله، حيث يصغره بحوالي عشرين سنة، واعتاشت الصحافة وقتها على كواليس الفنانين الكبيرين، وتسجيل مكالمات يتبادلان فيها الود الدبلوماسي، أو التقاط صور مشتركة لهما، تنفي الخصومة.. وبدا ان الأمر تضخمه وسائل الاعلام وكذلك أولتراس المعجبين بهما، على طريقة الأهلي والزمالك. ومع ذلك ورغم صعود عبد الحليم الطاغي، وتغير الذائقة، حافظ فريد على نجوميته وشهرته وظل الاقوى في ظل المنافسة للعندليب مطربا وممثلا، وكان من مظاهر هذه المنافسة ان فيلمين لفريد حملا عنوان: لحن الخلود، ولحن حبي.. وفيلم لعبد الحليم حمل عنوان: لحن الوفاء!
ويروى ان عبد الحليم أبدى اعجابه بلحن فريد يا وحشني رد علي واتفق على غنائه، ثم تهرب منه، فكانت الأغنية علامة في مسيرة محرم فؤاد! ويقال ان فريد تعمد دائما التعاون مع أي منافس يظهر للعندليب مثل محمد رشدي ومحرم فؤاد وكمال حسني وعبد اللطيف التلباني!
ورغم قرب العندليب من سلطة يوليو وزعيمها عبد الناصر، لكن هناك مواقف كثيرة تشهد تقدير عبد الناصر لفريد، أشهرها عام 1970 عندما جاء فريد من لبنان بعد ابتعاده عن مصر عدة سنوات وغنى سنة وسنتين وانت يا قلبي تقول أنا فين التي كتبها مأمون الشناوي وأراد ان يغنيها في ليلة الربيع وهو نفس موعد غناء عبد الحليم حافظ.
وكان التلفزيون بحسب رواية طارق الشناوي يقدم دائما حفل عبد الحليم مساء الأحد على الهواء مباشرة ولم تكن الدولة تملك وقتها سوى قناتين فقط الأولى والثانية وامكانيات الدولة لا تسمح سوى ببث حفلة واحدة على الهواء، ولم يستطع أحد حل هذا المأزق ولا حتى وزير الاعلام. عبد القادر حاتم، فأصدر عبد الناصر نفسه أوامره ان يبث حفل فريد على الهواء ويسجل حفل حليم ليذاع في ثاني يوم. واضطرت الفرقة الماسية بقيادة أحمد فؤاد حسن الى تقسيم نفسها الى شعبتين برئاسة فؤاد حسن وأحمد الحفناوي مع الاستعانة ببعض عناصر من فرقة صلاح عرام.
وكذلك منحه عبد الناصر وسام الفنون والعلوم من الطبقة الأولى وهو نفس الوسام الذي حصلت عليه من قبل أم كلثوم وعبد الوهاب وهو ما لم يمنح لعبد الحليم رغم اقترابه من دائرة السلطة! ما يفسره البعض بأن عبد الناصر على المستوى الشخصي كان معجبا أكثر بابداع فريد.
ومن طرائف المعارك بين الاثنين، تسجيل للتلفزيون اللبناني عام 1970 يعاتبه فريد قائلا: أنت قلت أني قد والدك فرد حليم: بلاش يا سيدي ما تزعلش أنت قد جدي! وتحدثا عن مشروع قادم من كلمات محمد حمزة لكنه لم يتم أيضا.
مشاريع الست
أما المسألة الثالثة فتتعلق بعدم تعاونه وهو الملحن الكبير مع أم كلثوم، وهنا تجدر الاشارة أنه ليس الوحيد بين الكبار الذين لم يتعانوا معها، فمثلا الملحن الكبير محمود الشريف والذي خطبها وكاد ان يتزوجها لم يتعاون معها. وأيضا كان هناك مشروع تعاون في أغنية الربيع كلمات مأمون الشناوي، ويقال انها تذرعت بعدم اعجابها ببعض الكلمات، حتى لا تحرج فريد بعدم تحمسها للحن، وفي رواية أخرى أنها طلبت منه تغيير بعض الأمور في اللحن لكنه رفض. ويقال أيضا ان مأمون الشناوي عرض عليها أول همسة فاعتذرت عنها، لتكون فيما بعد احدى أشهر أغاني فريد. وهناك روايات أخرى لمشاريع لم تكتمل بينهما لأغان وطنية وعاطفية منها مثلا أغنية كلمة عتاب التي باتت من نصيب وردة.
وبعض المؤرخين يرون ان فريد تأخر في طلب التعاون مع أم كلثوم، بعد ان سبقه غريمه عبد الوهاب، وبالتالي لم يسمح الوقت بنجاح أي مشروع بينهما. وان كان هناك رأي يناقض ذلك ويرد أول مشروع تعاون بينهما الى أغنية حبيب العمر عام 1947.
ومن التفاسير الأخرى ان أعمال فريد كانت تتأرجح ما بين تراكيب شعبية بسيطة ومتكررة وما بين حس أوبرالي، وكلا اللونين لا تفضلهما الست، أو أنها لا تميل الى المذاق الموسيقي الذي يقدمه بحسب شهادة مأمون الشناوي الذي كان شريكا في معظم هذه المشاريع المجهضة. وفي هذا السياق تردد ان فريد صرح بأن أم كلثوم تكرهه ولا تفضل التعاون معه بسبب غيرتها الشديدة من شقيقته أسمهان.
العالمية
كان لفريد بصمته المميزة، وألحانه التي لا تخطئها الأذن أبدا، والتي كانت سببا في شهرة عشرات المطربين، كما أصبحت أفلامه من كلاسيكيات السينما العربية التي تعاد حتى اليوم، وتربت عليها عشرات الأجيال.
وبلغ من حضوره العربي أنه المطرب الوحيد الذي كان يحمل أربع جنسيات: سورية، مصرية، لبنانية، وسودانية.
ويقال ان الدولة الوحيدة التي غضبت منه هي الجزائز لأنه غنى في أوبريت بساط الريح لتونس الخضراء ثم لمراكش، وتجاهل الجزائر، لكنه صحح هذا الخطأ فيما بعد.
كما تجاوزت ألحانه محيطه العربي ووصلت الى العالمية وحظيت بتوزيع أوركسترالي عن طريق فنانين كبار مثل الموسيقار الفرنسي فرانك بورسيل الذي أعاد توزيع حبيب العمر ونجوم الليل ورقصة ليلى كما أدى العديد من المغنين الكبار أغانيه بالفرنسية والروسية والتركية والصينية واليابانية والعبرية، الى درجة ان أغنيته يا زهرة في خيالي ذاعت في روسيا بصوت مطرب روسي في الخمسينيات وقد تكون أول أغنية عربية تصل الى العالمية في القرن العشرين، وتغنت المطربة الفرنسية مايا كازابيانكا بأغنية يا جميل يا جميل وفى عام 1962 عقدت مسابقة عالمية في تركيا لاختيار أحسن العازفين في العالم على الآلات الشرقية، وجرت منافسات المسابقة على جميع الآلات الشرقية، عدا آلة العود التى حجبت اللجنة المنظمة جائزتها لتهدى الى فريد الأطرش الذى لم يحضر المسابقة، لأنه وطبقا لرأى اللجنة هو الجدير بها. وأيضا ممن غنوا ألحانه من كبار المطربين العالميين داليدا وأنريكو ماسياس.
وكان حلم فريد الأطرش دائما ان تصبح موسيقانا العربية الشرقية بكل تقاليدها العربية ذات شكل عالمي.
وقد علق بليغ حمدي عقب رحيله: قد يأتي من يفهم أكثر منا في الموسيقى ليقيِّم فريد موسيقيا.
تكريم
لقي فريد الأطرش الكثير من مظاهر التكريم الشعبي والرسمي، فقد نال أكثر من 15 وساما منها وسام الفنون من الطبقة الأولى من عبد الناصر، ووسام الاستحقاق اللبنانى، وجائزة أحسن عازف عود في العالم عام 1962م، وميدالية الخلود من فرنسا عام 1965 والتي نشرت بمقتضاها أعماله في الموسوعات العالمية، كما رشح لنيل جائزة الدولة التقديرية في الفنون عام 1974 قبل شهور من وفاته، وكان من حيثيات الترشيح أنه أول من أدخل فن الأوبريت الى السينما المصرية، ولأنه حافظ على الطابع العربى ولم يحد قيد شعرة عن المشاعر العربية الأصيلة.. ولم يغن لمصر فقط أو للبنان أو لسوريا، لكنه غنى للعرب حيثما كانوا.
فلا عجب ان يحظى بحب الجماهير الكبير، فعندما سافر الى تونس والمغرب عام 1951، استقبله آلاف التونسيين يتقدمهم المعتمد الفرنسى واثنان من أمراء البيت الحسينى الحاكم وفى سوريا، لم تجد الشرطة بُدا من تخصيص فرقة لحمايته من هجوم المعجبين والمعجبات في صيف عام 1955. وقد تعددت الألقاب التي أطلق عليها جمهوره منها مطرب العروبة وملك العود وموسيقار الأزمان.
وظل فريد وفيا لحسه العروبي، وهو ما تبدى في الأوبريت الشهير بساط الريح ومن قبله أوبريت غناء العرب مع صباح في فيلم بلبل أفندي عام 1948 ولا ننسى تلحينه لأغنية صباح الشهيرة م الموسكي لسوق الحميدية التي تحتفي الوحدة المصرية السورية عام 1958 كما غنى للكثير من الشعوب العربية مثل السودان واليمن والمغرب، وللعديد من الزعماء، وان اندثرت بطبيعة الحال معظم هذه الأعمال.
نهاية النغم
ومساء السبت 31 أغسطس 1974 في بيروت أحيا فريد آخر حفلاته وغنى زمان يا حب ويا حبايبي يا غاليين وبعدها أصيب بالتهاب رئوي، اضافة الى معاناته لسنوات طويلة مع مشاكل في القلب.
وقد سافر في رحلة علاج فاشلة الى لندن ثم عاد الى بيروت، ولقي وجه ربّه بعد عصر يوم الخميس الموافق 26 ديسمبر 1974 أثناء العرض الأول لفيلمه الحادي والثلاثين نغم في حياتي في دور السينما اللبنانية.
لقد تمتع فريد بنُبْل الفارس ورقة الفنان، كان كريما سخيا، وخلال رئاسته لجمعية المؤلفين والملحنين المصرية منذ عام 1963 وحتى وفاته، قدم الكثير للدفاع عن حقوق اخوانه وكثيرا ما كان يدفع من ماله الخاص لتجنب مشاكل الروتين واللوائح. كما ظل بيته مفتوحا للجميع، ولا يتردد عن مساعدة طالب أو مريض أو محتاج.
ولعل عشرات الكتب والمقالات التي كتبت عن سيرته وابداعه، ردت اليه بعض الاعتبار لفنان ضحى بكل شيء من أجل جمهوره، وظل حتى آخر لحظة من عمره يمسك ريشته عازفا على أوتار الحب والشجن.
وحتما سيبقى صوته الشاجي يغرد في وجداننا:
آدي الربيع عاد من تاني..
والبدر هلت أنواره
وفين حبيبي اللي رماني
من جنة الحب لناره
Commenti
Posta un commento